يحتاج العراق شهرياً إلى 4.5 مليار دولار لدفع رواتب الموظفين والمتقاعدين، عدا النفقات الضرورية الأخرى مثل تمويل شراء الأدوية واستيراد الكهرباء والوقود وغيرها، بينما إيرادات النفط خلال الشهر الماضي وصلت إلى 2.5 مليار دولار.
العراق الذي دخلت خزائنه أكثر من تريليون دولار من إيرادات النفط منذ العام 2003 وحتى الآن، صارت حساباته شبه فارغة، بينما الحكومة أخذت تعجز عن دفع رواتب العاملين في القطاع العام والمتقاعدين والفئات الهشة من المعطلين عن العمل ومستفيدي الرعاية الاجتماعية ! .
أين ذهبت، إذاً، كل الأموال؟ وما هي خطط الحكومة الجديدة، التي سُميّت ب"حكومة الفرصة الأخيرة"، لإنقاذ النظام السياسي بعد موجات رفض قطاعات كبيرة من السكان له؟ وهل تستطيع هذه الحكومة إحداث فارق في إدارة الأموال وضبط الإنفاق، والأهم القضاء على الفساد، وإحلال نظام عدالة اجتماعي جديد؟ .
بنية النظام: يقوم النظام الاقتصادي العراقي على الاعتماد على عائدات مبيعات النفط لتسيير أعمال الحكم وأحزابه بالدرجة الأولى، ومن ثم منح السكان ما يتبقى لإبعاد شبح الجوع عنهم. لكن النظام لا يملك مفاتيح سحرية للاستمرار بهذه الآلية، فكل ما يعينه على البقاء هو توفير الوظائف العامة لجزء من السكان وتمويلها، مرتبطاً بالخطوط البيانية لأسعار النفط في العالم.
ومنذ غزو العراق في نيسان/ أبريل عام 2003، تقاسمت الأحزاب، بصفقة غير معلنة، موارد البلاد النفطية وغيرها. هي تقوم، على سبيل المثال، ببيع نصيب من الوزارات التي حصلت وفق أساس نظام المحاصصة الطائفي إلى حزب آخر من الطائفة نفسها، وبعدها تجري عملية عرض المشاريع الاستثمارية التابعة للوزارة، التي تقدر قيمتها بملايين الدولارات على مقاولين تابعين للأحزاب، أو بيع الوظائف للمواطنين بآلاف الدولارات للتربّح لحساب الحزب.
ثم يقوم الحزب، بالمقابل، بمنح وظائف لبعض السكان لضمان الحصول على الأصوات في الانتخابات. ارتفع الإنفاق على رواتب الموظفين والمتقاعدين من حوالي 2 مليار دولار عام 2004 إلى 43.3 مليار دولار عام 2020، حسب الأرقام الصادرة عن وزارة المالية.
فقد وظفت الأحزاب الحاكمة أكثر من 600 ألف شخص في القطاع العام، وصدرت علاوات جديدة للمرتبات، علاوة على توظيف عشرات الآلاف بصيغة عقود وأجور يومية.
مثال على ذلك، خلال انتخابات البرلمان والمحلية، التي شهدها العراق 5 مرّات بين عامي 2005 و2018، عمد السياسيون إلى استثمار موارد الدولة لصالحهم ومصلحة أحزابهم ومن أجل قطف أصوات الناس انتخابياً.
استبقت الأحزاب الانتخابات المحلية عام 2009 والانتخابات البرلمانية عام 2010، بالتحشيد قبل عامين من مواعيد الاقتراع للحصول على أصوات السكان، فوظفت أكثر من 600 ألف شخص في القطاع العام، وأصدرت علاوات جديدة للمرتبات، علاوة على توظيف عشرات الآلاف بصيغة عقود وأجور يومية، واحتساب رواتب تقاعدية لجمهور الأحزاب من الذين عارضوا نظام صدام حسين ضمن قوانين الشهداء والسجناء.
أدت هذه الخطوات، وما تلاها من سياسات مشابهة إلى ارتفاع الإنفاق على رواتب الموظفين والمتقاعدين من حوالي 2 مليار دولار عام 2004 إلى 43.3 مليار دولار عام 2020 حسب الأرقام الصادرة عن وزارة المالية.
أدت هذه الخطوات، وما تلاها من سياسات مشابهة إلى ارتفاع الإنفاق على رواتب الموظفين والمتقاعدين من حوالي 2 مليار دولار عام 2004 إلى 43.3 مليار دولار عام 2020 حسب الأرقام الصادرة عن وزارة المالية.
وبطبيعة الحال، فلم تكن أموال الرواتب هذه موزعة بعدالة بين الموظفين، أي لا يحصل موظفان في السلم الوظيفي نفسه، لكنهما يعملان في وزارتين مختلفتين، على الراتب نفسه، بل يحصل أحدهما على راتب يعادل ثلاثة أضعاف زميله، وذلك بحجة أن هذه الوزارة "منتجة". فما معنى ذلك؟ ومن عطّل إنتاج الأخرى؟ .
كما عززت الأحزاب هيمنتها على الدولة، بإضافة مناصب جديدة وبرواتب كبيرة, سمّيت هذه المناصب بـ"الدرجات الخاصة"، وقد وزعت بين الكتل السياسية، وكان عددها عام 2005 حوالي 1847، أما الآن فقد تجاوزت أكثر من 5308 وفقاً لمؤشرات قوى العمل في وزارة المالية. وإضافة إلى رواتبهم، فإن أصحاب الدرجات الخاصة يتمتعون بامتيازات أخرى مثل الحمايات الشخصية، والسيارات، ومكاتب، ومخصصات مالية إضافية. وتوزّع "الدرجات الخاصة" بين الطوائف والقوميات العراقية. فمثلاً يجب أن يكون لكل وزير وكلاء ومستشارون من السنة والشيعة والكرد والقوميات الأخرى.
ويعد هؤلاء الشبكة البيروقراطية للأحزاب، وغالباً ما تكون "مُيسّرة" لأعمال إحالة العقود على رجال الأعمال التابعين للقوى السياسية.
لم تكتفِ الأحزاب المهيمنة على السلطة بهذا. في عام 2005 قامت الجمعية الوطنية بتشريع قانون "تخصيص منحة مالية" لكل عضو من الأعضاء المئة، تبلغ 50 ألف دولار غير قابلة للاسترداد وذلك بهدف "تحسين المعيشة"، ومنحت الجمعية أيضاً أراضٍ لأعضائها ولأعضاء الحكومة في أماكن مركزية ببغداد تقدر قيمتها اليوم بملايين الدولارات.
توسع استغلال الأموال العامة بعد ذلك من خلال منح رؤساء الهيئات الثلاث، الجمهورية والوزراء والبرلمان، رواتب سنوية تبلغ 770 ألف دولار لكل شخص، بالإضافة إلى 12 مليون دولار كمنافع اجتماعية.
اقتصاد مرتبط بالحكومة: بكل الأحوال، عمل النظام على تعزيز مركزية الدولة في مخالفة للدستور الذي شدد على اعتماد "اقتصاد السوق" مساراً لإدارة الشؤون الاقتصادية، وذلك لأن الإيرادات النفطية الكبيرة فتحت شهية الأحزاب على استثمارها للتربّح، فقامت بتحجيم دور القطاع الخاص، وإنشاء قطاع خاص طفيلي يتبع للقوى السياسية، وظيفته الرئيسية الحصول على مقاولات من الدولة بالتنسيق مع رؤوس الفاعلين الكبار في الحكومة والأحزاب.
وقد بلغت المشاريع غير المنجزة، الممنوحة لهذا القطاع، نحو 9 آلاف مشروع بقيمة أكثر من 200 مليار دولار، وبذلك احتل العراق المراتب الأولى في البلدان الأكثر فساداً، وفقاً لمنظمة الشفافية الدولية.
عززت الأحزاب هيمنتها على الدولة بإضافة مناصب جديدة برواتب كبيرة. سُمّيت هذه المناصب بـ"الدرجات الخاصة"، وقد وزّعت بين الكتل السياسية. وكان عددها عام 2005 حوالي 1847 منصباً، أما اليوم فهي أكثر من 5308 مناصبَ وفق مؤشرات قوى العمل في وزارة المالية.
لكل وزير وكلاء ومستشارون من السنة والشيعة والكرد والقوميات الأخرى. هؤلاء هم الشبكة البيروقراطية للأحزاب، وغالباً ما تكون "مُيسّرة" لأعمال إحالة العقود على رجال الأعمال التابعين للقوى السياسية.
يعتبر العراقي الذي يعمل في القطاع الخاص والموازي نفسه عاطلاً عن العمل، لأن العمل تحوّل، من وجهة نظر السكان، إلى الوظيفة في الحكومة التي توفر له الأمن الوظيفي، بسبب غياب التشريعات والقوانين التي تنظم عمل القطاع الخاص في العراق.
وبالنسبة للنظام، فإن فئة الموظفين والمتقاعدين صارت الجدار الذي يحميه من السقوط. وقد ظهر ذلك جليّاً مع الاحتجاجات الشعبية التي بدأت تظهر منذ عام 2011، وتطالب بتحقيق العدالة الاجتماعية والقضاء على الرواتب الكبيرة لأعضاء الحكومة والبرلمان، والتي كانت تجابهها الدولة بالقمع، وخصوصاً مع التظاهرات التي انطلقت في العام 2012 في جنوب العراق مطالبةً بإلغاء الرواتب التقاعدية لأعضاء البرلمان ومجالس المحافظات التي كانت تمثل 80 في المئة من إجمالي الرواتب.
بينما ترفض الدولة منح راتب تقاعدي لأي شخص لا يعمل في الحكومة لمدة 15 عاماً على الأقل، فيما الآلاف من جماهير الأحزاب مُنحوا رواتب تقاعدية، وهم لا يعملون في الدولة ولم يدفعوا توقيفات تقاعدية.
الخطط الجديدة – القديمة
خلال الأعوام الأخيرة، وتحديداً بعد هبوط أسعار النفط في السوق العالمية، بدأت قيادات الأحزاب تلوم الموظفين بأنهم وراء توقف الصناعة والزراعة وغيرها من القطاعات الإنتاجية، نتيجة لازدياد أعدادهم! ولكن حتى الاستيراد مخصص لأحزاب السلطة، فهي من يمسك بهذا القطاع، وهي من يستورد البضائع التي تتجاوز قيمتها سنوياً 35 مليار دولار وفقاً للجهاز المركزي للإحصاء.