انتهت الجولة الثالثة من الحوار الاستراتيجي بين واشنطن وبغداد من دون الاتفاق على إطار زمني لإنهاء الوجود الأميركي في العراق، على رغم إشارة البيان المشترك الصادر عن المجتمعين إلى قرب سحب «القوات القتالية»، قبل تنفيد «البنتاغون» ما عناه ذلك، والتراجُع عن أصل الفكرة، وإرجائه تنفيذ الانسحاب إلى يومٍ مناسب.
ما سبق يؤكّد أن الإدارة الأميركية تسعى إلى الحفاظ على مكتسبات، من شأنها أن تُعزِّز أوراق قوّتها في مرحلة المفاوضات الموسّعة مع إيران.
من بوّابة الجولة الثالثة من الحوار الاستراتيجي بين الولايات المتحدة والعراق، عاد الحديث عن الحضور العسكري الأميركي في بلاد الرافدين، ليحتلّ جانباً مهمّاً من المناقشات التي قادها وزيرا خارجية البلدَين، أنتوني بلينكن، وفؤاد حسين، بإشراف رئيس الوزراء العراقي، مصطفى الكاظمي.
لوهلةٍ، بدا أن إدارة الرئيس جو بايدن عازمة على المضيّ قُدُماً في خطط الانسحاب التي أرسى الرئيس السابق، دونالد ترامب، أساساتها، خدمةً لنهج «أميركا أوّلاً» السائد إبّان عهده.
لكن الرئيس الجديد يبدو أكثر ميلاً إلى الحفاظ على مكتسبات من شأنها أن تُعزِّز أوراق قوّته في مرحلة المفاوضات الموسّعة مع إيران، والتي سيشكِّل نفوذ طهران الواسع في جوراها، نقطة ارتكاز فيها.
في تفاصيل ما ورد، خلصت الجولة الثالثة، أوّل من أمس، إلى توافق الجانبَين على سحب «القوات الأميركية القتالية» الموجودة في العراق، بعدما تحوّلت «مهمّة» الولايات المتحدة و«التحالف الدولي» الذي تقوده لمحاربة «داعش»، إلى «التدريب والمشورة»، لإتاحة إعادة نشر «القوات القتالية» الموجودة في العراق.
لكن البيان المشترك الذي صَدر عن المجتمعين لم يُحدِّد جدولاً زمنياً لهذا لانسحاب المُقنَّن، على رغم تأكيد مستشار الأمن القومي العراقي، قاسم الأعرجي، أن «الجانب الأميركي تعهّد بسحب عدد مهمّ من قوّاته»، وأنه جرى الاتفاق على «ألّا تكون هناك قواعد عسكرية أميركية» في بلاد الرافدين.
«الزلّات» الواردة في البيان، سرعان ما فنّدها الناطق باسم «البنتاغون»، جون كيربي، إذ أكّد أنه ما مِن تفاهم مع بغداد حول الجدول الزمني المتعلِّق بعملية سحب «القوات القتالية»، مشيراً إلى أن عبارة «التوصّل إلى توافق بخصوص استمرار عملية سحب القوات القتالية الأميركية» الموجودة في البيان المشترك، «لا تعني في الواقع أن الانسحاب سيبدأ»، إذ إن «البيان ينصّ على أنه تقرَّر إجراء مباحثات فنّية إضافية من قِبَل الطرفَين بخصوص الانسحاب النهائي».
ولفت إلى أن وجود قوّات بلاده في العراق جاء بناءً على موافقة ودعوة بغداد، كما أن «المهمَّة التي تمّ إطلاقها ضدّ تنظيم داعش الإرهابي لم تكن قائمة على وجود عسكري أميركي دائم هناك، والإدارة (الأميركية) ذكرت منذ فترة طويلة، أنها، يوماً ما، ستسحب جنودها». وتحدّث كذلك عن اتفاق بين الجانبين على «أهميّة» الوجود الأميركي في البلاد، «وما تَرَونه في البيان، هو في الواقع تأكيد على أهميّة شراكتنا مع العراق، والمهمَّة المستمرّة ضدّ داعش، وفي نهاية المطاف سنتحدَّث عن التوقيت المناسب لانسحاب مناسب».
إزاء هذه المناورة، يتأكَّد أن لا انسحاب أميركياً من العراق، الذي أصبح، بخلاف ما تبدّى في فترة الحملات الانتخابية، في صلب أولويات الإدارة الجديدة، التي تُحاذر انسحاباً يغيّبها عن إحدى الساحات الرئيسة في المنطقة، وسط دعوات لا تفتأ تتواصل إلى ضرورة الحفاظ على المكتسبات، في خضمّ نزوع إيران إلى تحقيق ما أمكنها من أوراق قوّة قبل الشروع في مباحثات جدّية مع الأميركيين.
ولمّا اكتفى بايدن، خلال حملته الانتخابية، بإطلاق وعدِ «إنهاء الحروب فى أفغانستان والشرق الأوسط»، لم تغفل ملاحظاته فكرة البقاء المحدود لاستكمال مشروع «الحرب على الإرهاب».
وهي ركيزةٌ عزّزها تالياً قرار «حلف شمال الأطلسي»، أخيراً، توسيعَ حضوره العسكري في العراق، مِن 500 إلى أربعة آلاف جندي تتمحور مهمّتهم حول «دعم القوات العراقية في تصدّيها للإرهاب، وضمان عدم عودة تنظيم داعش».
وفي هذا الإطار، يُسدي ديفيد شينكر، مساعد وزير الخارجية السابق لشؤون الشرق الأدنى، بعض النصح لإدارة بايدن، داعياً إيّاها إلى الحفاظ على وجودها العسكري في العراق، لأن من شأن الانسحاب أن «يقضي على جهود كبح تنظيم داعش، ويقوّض الثقة في بغداد، ويفاقم الأزمة الاقتصادية في العراق، ويسلِّم البلاد بالكامل إلى طهران، ويزيد من جرأة طموحات الهيمنة الإيرانية في المنطقة»، وكون وجودها في هذا البلد يمثِّل، أوّلاً، «مصلحة حيوية للأمن القومي» الأميركي.
ويذكّرها بأن عليها اتباع نهج ترامب لجهة إعادة إرساء «قوّة ردع موثوق بها. ومن أجل حماية العناصر الأميركيين والحفاظ على الوجود الأميركي في العراق، على واشنطن الذهاب إلى أبعد من الوكلاء والبدء بمحاسبة طهران».
على رغم ذلك، لم تَعد واشنطن في وضع يسمح لها بإملاء شروطها على القادة العراقيين، خصوصاً بعدما «سلب إرث الغزو والانسحاب العسكري ولاحقاً فكّ الارتباط»، مصداقية الولايات المتحدة ونفوذها الذي كانت تتمتّع به في البلاد، وفق ما جاء في مقالةٍ نُشرت، في شباط/ فبراير الماضي، على موقع «وور أون ذا روكس».
مع هذا، «يظلّ الشرق الأوسط مهماً للمصالح الاقتصادية والأمنية للولايات المتحدة، حيث يحتلّ العراق مكانةً استراتيجية رئيسة في المنطقة، ويمتدّ عبر خطوط الصدع المهمّة».
وفي التوصيات الواردة في سياق التقرير، ينصح الإدارة، إذا كانت تريد إعادة إشراك الولايات المتحدة بشكل هادف في العراق، بـ«إنشاء شبكات محلية قويّة، عبر اعتماد بعض الاستراتيجيات التي خَدَمت طهران جيداً».
فبالتوازي مع دعم قوات الأمن العراقية، ومكافحة «الميليشيات»، واحتواء النفوذ الإيراني، والتي شكَّلت أولويات واشنطن على مدى السنوات الأربع الماضية، تحتاج الإدارة إلى «تبنِّي سياسة منسّقة تهدف إلى إقامة علاقات أميركية مع العراق من الألف إلى الياء»، تتمثَّل في «إعادة هيكلة الوجود الدبلوماسي الأميركي، وبناء شبكات محليّة، وتوفير قنوات اتصالات فعّالة، وتقديم حلول اقتصادية»، أي «بناء شبكة نفوذ متطوّرة عبر العراق، تماماً كما فعلت إيران».